سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد، وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والفرق بين {خشية إملاق} ومن إملاق وبين قوله: {نرزقهم} ونرزقكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب: {ولا تقتلوا} بالتضعيف. وقرئ {خشية} بكسر الخاء، وقرأ الجمهور {خطأً} بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما. وقال النحاس: لا أعرف لهذه القراءة وجهاً ولذلك جعلها أبو حاتم غلطاً. وقال الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطئ وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أخشاه *** وأخر يومي فلم يعجل
وقول الآخر في كمأة
تخاطأه القناص حتى وجدته *** وخرطومه في منقع الماء راسب
فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل. وقرأ ابن ذكوان {خطأ} على وزن نبأ. وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنيّ. وقال أبو حاتم: هي غلط غير جائز ولا يعرف هذا في اللغة، وعنه أيضاً خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفاً وذهبت لالتقائهما. وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطئ في الدين وأخطأ في الرأي، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر {خطأ} بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطئ بالكسر.


لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة، هكذا نقل اللغويون. ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه *** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
ويروى أبا خالد. وقال آخر:
كانت فريضة ما تقول كما *** كان الزناء فريضة الرجم
وكان المعنى لم يزل أي لم يزل {فاحشة} أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح {وساء سبيلاً} أي وبئس طريقاً طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار. وقال ابن عطية: و{سبيلاً} نصب على التمييز التقدير، وساء سبيله انتهى. وإذا كان {سبيلاً} نصباً على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في {ساء}، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز، ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم، وتقدّم تفسير قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق} في أواخر الأنعام قال الضحاك: هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى.
ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله: {وقضى ربك} كاندراج {أن لا تعبدوا} وانتصب {مظلوماً} على الحال من الضمير المستكن في {قتل} والمعنى أنه قتل بغير حق، {فقد جعلنا لوليه} وهو الطالب بدمه شرعاً، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا. وقال مالك: ليس للنساء شيء من القصاص، وإنما القصاص للرجال. وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم: ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة: السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية. وقال ابن عباس: البيِّنة في طلب القود. وقال الحسن القود. وقال مجاهد الحجة. وقال ابن زيد: الوالي أي والياً ينصفه في حقه، والظاهر عود الضمير في {فلا يسرف} على الولي، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد، أو يمثل قاله قتادة، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج.
وقال أبو عبد الله الرازي: السلطنة مجملة يفسرها {كتب عليكم القصاص} الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح: «من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية» فمعنى {فلا يسرف في القتل} لا يقدم على استيفاء القتل، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال {وأن تعفوا أقرب للتقوى} انتهى ملخصاً. ولو سلم أن {في} بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى، لأن من قتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقاً بقتله، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله. وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب.
وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {فلا يسرف} ليس عائداً على الولي، وإنما يعود على العامل الدال عليه، ومن قتل أي {لا يسرف} في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله. وقرأ الجمهور {فلا يسرف} بياء الغيبة. وقرأ الإخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له. وقال الطبري: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى. قال ابن عطية: وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية. وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة. وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة: {فلا يسرف} بضم الفاء على الخبر، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر. وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى. رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه {إنه كان منصوراً} كقراءة الجماعة والضمير في {أنه} عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق. وقيل: يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا، ونصره بالثواب في الآخرة. قال ابن عطية: وهو أرجح لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام: «ونصر المظلوم وإبرار القسم» وكقوله: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» إلى كثير من الأمثلة.
وقيل: على القتل. وقال أبو عبيد: على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد القصد. وقال الزمخشري: وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى. وهذا بعيد جداً.
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه} لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» لما كان اليتيم ضعيفاً عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام. {وأوفوا بالعهد} عام فيما عقده الإنساب بينه وبين ربه، أو بينه وبين ربه، أو بينه وبين آدمي في طاعة {إن العهد كان مسؤولاً} ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفى به ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل، كأنه يقال للعهد: لم نكثت، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه، كما جاء {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب. وقيل: هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولاً عنه إن لم يف به.
ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال. وفي قوله {وأوفوا الكيل} دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري. وقال الحسن: {القسطاس} القبان وهو القلسطون ويقال القرسطون. وقال مجاهد: {القسطاس} العدل لا أنه آلة. وقرأ الإخوان وحفص بكسر القاف، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان. وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صاداً. قال ابن عطية: واللفظية للمبالغة من القسط انتهى. ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط، وذلك مادته ق س ط س إلاّ إن اعتقد زيادة السين آخراً كسين قدموس وضغيوس وعرفاس، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله: {إذا كلتم} أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد، وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان مّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل.
{ذلك خير} أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق {وأحسن تأويلاً} أي عاقبة، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو من المآل وهو المرجع كما قال: خير مرداً، خير عقباً، خير أملاً وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه.


لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاء بالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه: {ولا تقف} {ولا تمش} {ولا تجعل}. ومعنى {ولا تقف} لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته. وقال ابن عباس: معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم. وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه. وقال محمد بن الحنيفة: لا تشهد بالزور. وقال ابن عطية: ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى. وفي الحديث: «من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج» وقال في الحديث أيضاً: «نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا» ومنه قول النابغة الجعدي:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن *** بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا
وقال الكميت
فلا أرمي البريء بغير ذنب *** ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع. فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قال الزمخشري: وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى. وقرأ الجمهور: {ولا تقف} بحذف الواو للجزم مضارع قفا. وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو. كما قال الشاعر:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً *** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم. وقرأ معاذ القارئ: {ولا تقف} مثل تقل، من قاف يقوف تقول العرب: قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح. وقرأ الجرّاح العقيلي: {والفؤاد} بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في {الفؤاد} وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه. قال الحوفي: يتعلق بما تعلق به {لك} وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد} دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد. و{أولئك} إشارة إلى {السمع والبصر والفؤاد} وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره.
وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل. فقال: وعبر عن {السمع والبصر والفؤاد} بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بأولئك. وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: {رأيتهم لي ساجدين} إنما قال: رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام
وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى. وليس ما تخيله صحيحاً، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه، و{كل} مبتدأ والجملة خبره، واسم {كان} عائد على {كل} وكذا الضمير في {مسؤولاً}. والضمير في {عنه} عائد على ما من قوله {ما ليس لك به علم} فيكون المعنى أن كل واحد من {السمع والبصر والفؤاد} يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به. وهذا الظاهر. وقال الزجاج: يستشهد بها كما قال {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} وقال القرطبي في أحكامه: يسأل الفؤاد عما اعتقده، والسمع عما سمع، والبصر عما رأى. وقال ابن عطية: إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي. وقيل: الضمير في {كان} و{مسؤولاً} عائدان على القائف ما ليس له به علم، والضمير في {عنه} عائد على {كل} فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً.
وقال الزمخشري: و{عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله {غير المغضوب عليهم} يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من أن {عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت. وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس {عنه مسؤولاً} كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في {عنه مسؤولاً} وتأخيره في {المغضوب عليهم} وقول الزمخشري: ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى.
وانتصب {مرَحاً} على الحال أي {مرَحاً} كما تقول: جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي {ولا تمش في الأرض} للمرح ولا يظهر ذلك، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال، ولذلك بقوله علل {إنك لن تخرق الأرض}. وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب: {مرحاً} بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً. قال مجاهد: لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً، {ولن تبلغ الجبال} بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و{طولاً} والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال. وقال الزجاج: {لا تمش في الأرض} مختالاً فخوراً، ونظيره: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} و{اقصد في مشيك ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور} وقال الزمخشري: {لن تخرق الأرض} لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك، {ولن تبلغ الجبال طولاً} بتطاولك وهو تهكُّم بالمختال. وقرأ الجراح الأعرابي: {لن تخرق} بضم الراء. قال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة. وقيل: أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر. وقال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا *** فكم تحتها قوم هم منك أرفع
والأجود انتصاب قوله {طولاً} على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال. وقال الحوفي: {طولاً} نصب على الحال، والعامل في الحال {تبلغ} ويجوز أن يكون العامل تخرق، و{طولاً} بمعنى متطاول انتهى. وقال أبو البقاء: {طولاً} مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث. وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق {سيئة} بضم الهمزة مضافاً لهاء المذكر الغائب. وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافاً للهاء، وعنه أيضاً سيئات بغيرها، وعنه أيضاً كان خبيثه. فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين، وهما قفو ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحاً. وقيل: إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر.
قال الزمخشري: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً، ألا تراك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى. وهو تخريج حسن.
وقيل: ذكر {مكروهاً} على لفظ {كل} وجوزوا في {مكروهاً} أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلاً من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة. قيل: ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح، تقول: أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ {سيئة} بالتذكير والإضافة فسيئة اسم {كان} و{مكروهاً} الخبر، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات. وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله:
فإن الحوادث أودى بها ***
لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله {لا تجعل مع الله إلها آخر} إِلَى قَوله {ولا تمش في الأرض مرحاً} وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله {لا تجعل}. واختتم الآيات بقوله {ولا تجعل} وقال: مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر، و{مما أوحى} خبر عن ذلك، و{من الحكمة} يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ.
وعن ابن عباس: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، أولها {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} قال تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} وكرر تعالى النهي عن الشرك، ففي النهي الأول. {فتقعد مذموماً مخذولاً} وفي الثاني {فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك، فأول الأمر الذم وآخره اللوم، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً.
وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة، ولذلك جاء {فتلقى في جهنم} والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول. وقال الزمخشري: ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8